فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (10):

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}
قلت: {ظلمًا}: تمييز، أو مفعول لأجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} من غير موجب شرعي، {إنما يأكلون في بطونهم نارًا}، أي: ما يجُر إلى النار ويؤول إليها.
وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا»، فقيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: «ألم تر أن الله يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا}» أي: يحترقون في نار، وأي نار!! والصَّلْى: هو الشيّ، تقول: صليت الشيء: شويته، وأصليته وصليته، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم.
الإشارة: حذَّر الحق جلّ جلاله أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء؛ الذين تعلقوا بهم؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!!.
فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق تعالى أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذ إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (11):

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يوصيكم الله} أي: يأمركم ويعهد إليكم، {في أولادكم}، أي: في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال: {للذكر مثل حظ الأنثيين}، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي: هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه؛ ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل: نُسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال: {يوصيكم} بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال: {يوصيكم} بالاسم الظاهر، أي: {الله} ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال: {في أولادكم} ولم يقل: في أبنائكم؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة، فإن قيل: هلاّ قال: للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى نصف حظ الذَّكر؟، فالجواب، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله، ولأن القصد ذكُر حظه، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. اهـ.
الأشارة: كما أوصى الله تعالى في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق من القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...}
قلت: أنث الضمير {كنّ} باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ {واحدةُ} بالرفع، ففاعل كان التامة، ومن قرأ بالنصب فخبر كان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: فإن كان المتروك من الأولاد {نساء} ليس معهن ذكور {فوق اثنتين} أي: اثنتين فما فوق، {فلهن ثلثا ما ترك}، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ {فوق} زائدة كقوله: {فاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاِق} [الأنفال: 12]، وقيل: أخذ الثلثين بالسُنة، وإن {كانت} بنتًا {واحدة فلها النصف}، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أن الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد؛ لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة: انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عددهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه: ما زال يأتيك الرجال أي: إخوانك من الفقراء وكان وحده، فيقول له: الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع.
وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: «طوُبَى للغُرَبَاءِ» والله تعالى أعلم.
ثم ذكرت ميراث الأبوين، فقال: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ...}
قلت: {السدس} مبتدأ، و{لأبويه} خبر، {لكل واحد}، بدل من {أبويه}، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال: لأبوَيْه السدس؛ لأوهم الاشتراك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: إذا مات الولد، وترك أبويه، فلكل {واحد منهما السدس إن كان له ولد} ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه} فقط، {فلأمه الثلث}، والباقي للأب، {فإن كان له أخوة}، أي: أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، {فلأمه السدس}، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية. فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلها كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [صَ: 21]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ» وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق تعالى الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال؛ لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة: الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة؛ الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذ استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول: الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منها معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم.
أو تقول: الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما.
وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ الولد في ميراث الأم، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس، والباقي كله للقدرة، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة، ذوقًا وكشفًا، وإلاَّ.. فليسلُم لأهل المعرفة. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو: فقال: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
يقول الحقّ جلّ جلاله: قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة؛ لأنكم {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميران الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. {فريضة} حاصلة {من الله}، {إن الله كان عليمًا} بمصالح العباد {حكيمًا} بما فرض وقدَّر.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما. اهـ. بالمعنى.
الإشارة: الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولابد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلابد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه: أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب، أي: اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام ههنا؛ ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. اهـ.
قلت: فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولكم} أيها الأزواج، من ميراث أزواجكم {نصف} ما تركن {إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد} وارث، ذكرًا أو أنثى، مفردًا أو متعددًا، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل، منكم أو من غيركم، {فلكم الربع مما تركن}، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية.
{ولهن} أي: الزوجات من ميراث الزوج {الربع} مما ترك {إن لم يكن} له ولد لا حق، ذكرًا أو أنثى، على وزان ما تقدم في الزوجة، {فإن كان لكم ولد فلهن الثمن} تنفرد به إن كانت واحدة، ويُقسم بينهن إن تعددن، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول.
فإن قيل: لِمَ كرر قوله: {من بعد وصية} مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، فكل واحدة قضية مستقلة، فلذلك ذكر مع كل واحدة، بخلاف الأول؛ فأن الموروث فيه واحد، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيه: {من بعد وصية} مرة واحدة. قاله ابن جزي. قال البيضاوي: فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة، إذا اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. اهـ.
الأشارة: إذا ماتت النفس، ولم تبق لها بقية، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية: النقلية والعقلية، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية، فانقلب الجميع وهبيًا، قال بعض شيوخ أشياخنا: (كنت أعرف أربعة عشر علمًا، فلما دخلت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبقى إلا الكتاب والسنة)، أو كما قال: وقال أبو سليمان الداراني: إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يؤدي إليها عالمٌ علمًا.
فإن بقي للنفس بقية، نقص ميراث الروح منها، بقدر البقية، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجِد، ورثت النفسُ ما كان لها من العلوم الوهبية، والمعاني والأسرار القدسية، فتأكلها، وتردها نقلية حسية، بعد أن كانت وهبية ذوقية، فتتحسس المعاني، وتتكثف الأواني.
والعياذ بالله من السلب بعد العطاء، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى، فإن بقي للروح شيء من الحياة، نقص ميراث النفس منها، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ، فقال: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
قلت: الكلالة: انقطاع النسل، بحيث لم يبقى للميت فرع ولا أصل، لا ذكر ولا أنثى، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ، إذا أحاط به كالإكليل، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة، فقال:
إن امرؤٌ يَسْأَلُ عن كَلاَلَة ** هو انْقِطاعُ النَّسْلِ لآ مَحَاله

لا والدُ يَبْقَى ولا مولوُد ** قدْ هَلَكَ الأبْنَاءُ والجُدُود

فتحتمل أن تطلق هنا على الميت، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة أو على المال. فإن كانت على الميت، فإعرابه خبر كان، و{يورث} صفة، أو {يورث} خبر كان، و{كلالة} حال من الضمير في {يورث}، أو {كان} تامة، و{يورث} صفة و{كلالة} حال من الضمير. وإن كانت على الورثة، فهو خبر كان، على حذف مضاف؛ أي: ذا كلالة، وإن كانت الوِرَاثة فهو مصدر في موضع الحال، وإن كانت القرابة، فهو مفعول من أجله، أي: يورث من أجل القرابة. وإن كانت للمال، فهو مفعول ثانِ ليورث، وكل من هذه يحتمل أن تكون {كان} تامة أو ناقصة. قاله ابن جزي. و{غير مضار}، منصوب على الحال، أو العامل فيه {يوصى}، و{مضار} أسم فاعل، ووصية: مصدر ليوصي، أو مفعول {مضار}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وإن كان الميث رجلاً أو امرأة، يُورثان كلالة، بحيث لا فرع لهما ولا أصل، قد انقطع عمود نسبهما، ولهما أخ أو أخت لأم {فلكل واحد منهما السدس}. {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}، الذكر والأنثى سواء، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية: أنهما لا يرثان مع الأم والجدة، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن، إذ ليس حينئذٍ بكلالة، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتي في آخر السورة. والأخت تقدم أنَّ لها النصف، وأيضًا: قد قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود،: {وله أخ أو أخت لأم}.
وهذا كله {من بعد وصية يوصى بها أو دين} حال كونه {غير مُضارٍ} في الوصية أو الدين، كالوصية بأكثر من الثلث، أو للوارث، أو فِرارًا منه، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار، رد ما زاد على الثلث، واختلف في رد الثلث على قولين.
قاله ابن جزي. {وصيًة من الله}، أي: نوصيكم وصية، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس: (الإضرار في الوصية من الكبائر). {والله عليم} بمصالح عباده، يقسم المال على حسب المصلحة، {حليم} لا يعاجل بالعقوبة من خالف حدوده.
الإشارة: اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد، فإن مات أحدهم، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه، وكذا إذا رجع فإنه موت فينقلب المدد إلى أخيه، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد، والله تعالى أعلم.